بحـث
سحابة الكلمات الدلالية
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت | الأحد |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | 3 | ||||
4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17 |
18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 | 24 |
25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
أفضل الأعضاء الموسومين
لا يوجد مستخدم |
معنى اسم الله الكريم
صفحة 1 من اصل 1
معنى اسم الله الكريم
مع الاسم الثالث والعشرين من أسماء الله الحسنى، والاسم هو اسم الكريم، وهذا الاسم أيها القارئ الكريم له دلالات كبيرة، وجدير بالإنسان أن يتخلّق بهذا الاسم لأنه من الأسماء التي يمكن لكل امريءٍ أن يتخلّق بها فيرقى بها إلى الله سبحانه، وأسماء الله كما تعلمون، منها أسماء خاصة بالله عز وجل كالخالق، القديم، وهناك أسماء أُمرنا أن نتخلق بها، واسم الكريم واحد منها.
اسم الكريم ؛ ثابت بنص القرآن الكريم، وسوف يتضح بعد قليل ما معنى اسم " القرآن الكريم "، وهو ثابت في قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (﴾
(سورة الانفطار)
وهذه الآية تخاطب القلب والعقل معاً، وقد ورد هذا الاسم بصيغة اسم التفضيل في آية أخرى بقوله تعالى:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)﴾
(سورة العلق)
فالكريم في قوله تعالى:
﴿ يَاأَيُّهَا الاِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾
والأكرم في قوله تعالى:
﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الاِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾
قبل أن نصل إلى ما تعنيه كلمة كريم في حق الله جل وعلا نريد أن نبدأ الحديث بما تعنيه كلمة كريم في التعامل اليومي، فكلمة كريم نستخدمها كثيراً، فقال العلماء: " كل صفة محمودة تسمى كرماً على خلاف ما يظنه معظم الناس "، من أن فلاناً كريم يعني أنه يعطي، وعطاؤه كثير.
فكلمة كريم شاملة واسعة: فالحلم كرم، السخاء كرم، اللطف كرم، الصبر كرم، المروءة كرم.. فالكرم يعني أيّة صفة حميدة يتصف بها الإنسان، بل إن الصفات الحميدة كلها تلخص بكلمة واحدة هي الكرم، بينما الصفات الخسيسة كلها تلخص بكلمة واحدة هي اللؤم.
وعلى النقيض الذل وهو: أن يقف الكريم بباب اللئيم، فالخسيس لئيم والمتكبر لئيم، والجحود لئيم، والذي يحب ذاته على حساب الآخرين لئيم، والبخيل لئيم، كل الصفات الخسيسة تجمعها كلمة لئيم، وكل الصفات المحمودة تجمعها كلمة كريم، فالناس رجلان ؛ كريم ولئيم.
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
أعلمه الرماية كل يــوم فلما اشتد ساعده رمانــي
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجانــــي
***
والواقع يثبت أن: الناس رجلان برٌّ كريم، وفاجر لئيم، هكذا قال عليه الصلاة والسلام..
فليس معنى كريم الذي يُعطي العطاء الكثير فقط، بل إن الحليم كريم، اللطيف كريم، الرحيم كريم، الصافي كريم، الودود كريم، المُنصف كريم، ومنه حجر كريم: اللؤلؤ، الألماس، الياقوت، المرجان.
محمد بشر وليس كالبشر بل هو ياقوتة والناس كالحجر
***
فالياقوت حجر لكنه كريم، والماس حجر لكنه كريم.
ومن معاني الكريم من كان كريم النسب، من هو الكريم بن الكريم ابن الكريم بن الكريم ؟ إنه سيدنا يوسف، قال عليه الصلاة والسلام:
(( يوسف أكرم الناس ))
أو نقول: فلان كريم الطرفين، يعني أمه كريمة وأبوه كريم، فقد حاز الشرف من طرفيه، من طرف أمه وأبيه.
من معاني الكريم من كان ذا صورة حسنة، والدليل قول الله عز وجل حينما وصف سيدنا يوسف، قال الله عز وجل:
﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)﴾
(سورة يوسف)
فالكرم يُستعمل بمعنى النسب الشريف، ولا يُتحدث عن شرف النسب إلا بعد معرفة الله وتطبيق منهجه، فإذا تحدثنا عن النسب فقط ؛ فقد يعني نسب الدنيا المتعارف عليه عند الناس، فأبو لهب بن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ والقارئ الكريم يعرف من أبو لهب:
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)﴾
(سورة المسد)
أنا جد كل تقي ولو كان عبداً حبشياً.
لا نتحدث عن النسب إلا بعد الإيمان، إذا أضيف النسب إلى الإيمان فهو نور على نور، أما قول الشاعر:
جمال الوجه مع قبح النفوس كقنديل على قبر المجوسي
***
فإنما يعزز المعنى من أن المرء الجميل الخلقة، لابد له من خلق ودين يجمله كذلك، فتتم الصورة حسنةً صافية.
أما المقام الكريم ؛ فهو الجنة، فلا تعب هناك ولا نصب ولا خوف ولا حزن ولا حسد ولا تباغض، ولا شيء يزعج، ومن كان ذا مقام كريم في الجنة فقد فاز حفاً.
ومن معاني الكريم ؛ الشيء العزيز، الذي تشتد الحاجة إليه يحتاجه كل شيء في كل شيء، ويقلُ وجوده ولا يستغنى عنه إطلاقاً، والدليل قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾
(سورة الحجرات)
والكريم الشيء الذي تكثر منافعه، قال تعالى:
﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)﴾
(سورة النمل)
كتاب كريم ؛ كله منافع، كله فوائد، كله حقائق، كله توجيهات صائبة، كله خيرات، كله بركات، إذاً معنى القرآن الكريم صار واضحاً: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، القرآن الكريم ليس فيه باطل ولا غلط، ليس فيه خلل ولا تناقض، وليس فيه مخالفة للواقع، ولا ضعف في أسلوبه، ولا إثاثة، ليس فيه معالجة سريعة، ولا معالجة متناقضة، قرآن كريم، خلا من كل شائبة، يعني المعنى الذي يجمع كل هذه المعاني، الكرم، يعني الكمال، قرآن كريم أي: خلا من كل عيب.
كذلك، نقول ناقة كريمة، أي غزيرة اللبن، درها كثير، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما أرسل سيدنا معاذاً إلى اليمن، قال له:
((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ ابْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فإذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فإنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فإنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فإنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فإيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فإنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ))
(أخرجه البخاري أول الزكاة، ومسلم في الإيمان، وأبو داود باب في زكاة السائمة، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد في المسند)
كرائم أموالهم ؛ يعني إن كان عنده بقرة يحرص عليها حرصاً شديداً فدعها له وخذ بقرة أخرى يختارها لك هو، لا كما يفعل بعض الناس، يأخذ ما يعجبه وهذا يتعارض مع السُنة الشريفة، فالسنة كما قال له:
(( إياك وكرائم أموالهم ))
وسُمي العنب كرماً لأنها فاكهة كثيرة الخير، ظل ظليل، وثمار يانعة وقطوف دانية، وغذاء جيد وفاكهة محببة.
أحياناً ينصب الناس خياماً على مداخل البيوت هذه الخيام من حين لآخر تتمزق، تعصف بها الرياح، تتلفها الأمطار، ولكن أناساً يزرعون الكرم على مداخل البيوت، فهذا الكرم ظل ظليل وفاكهة دانية ويانعة ومفيدة وإلى ما شاكل ذلك.
وإذا قلنا مكارم الأخلاق، يعني أفضلها وأحسنها وأرفعها وأسماها.. فهناك إذاً مكارم الأخلاق، والكرم وهو العنب، وهناك ناقة كريمة كثيرة الدَّرِّ، وهناك الكتاب الكريم، كثير الفوائد، وهناك الأحجار الكريمة الصافية من كل شائبة، وهناك العزيز، الشيء النادر، وهناك مقام كريم، وهناك الجمال الصوري:
﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)﴾
(سورة يوسف)
فإذا قلت: قرآن كريم يعني كتاب الله، فالله سبحانه وتعالى كماله مطلق وكلامه في كماله مطلق، فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه. وقال بعض الشعراء:
وحمل الزاد أقبح كل شيء إذا كان القدوم على الكريم
***
الآن إذا وصفنا الله سبحانه وتعالى، كما وصف هو نفسه، بأنه كريم:
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)﴾
[سورة الانفطار]
كلمة ما غرك، ما الغرور ؟.. الغرور أن ترى علبة مثلاً في الأرض فتظنها شيئاً ثميناً، تنكب عليها وتلتقطها، فإذا هي علبة فارغة، ظننت فيها قطعة ألماس أو ظننت فيها قطعة ذهب، أو ساعة ثمينة فانكببت عليها، فإذا هي علبة فارغة، هذه الحادثة اسمها الغرور، أنت اغتررت بها، هذا المعنى هل يمكن أن ينسحب على هذه الآية، لا..
﴿ يَاأَيُّهَا الاِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾
المعنى الذي يليق بهذه الآية هو أنك إذا ظننت أن هذا القاضي مثلاً يقبض الرشوة، فإذا أعطيته مالاً حكم لك وأنت ظالم، فأنت اغتررت بنزاهة هذا القاضي، فإذا قلنا
﴿ يَاأَيُّهَا الاِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾
يعني ظننت به غير الحق، وظننته غير عادل، وظننته غير رحيم، وظننته غير قدير، إذاً نفيت عنه القدرة والرحمة والعدل والإنصاف، بل هو لا ينسى عباده المؤمنين، وكما أنه لن يضع الذين أفنوا حياتهم في طاعته في النار، وكذلك لن يُكافئ الذين ناصبوه العِداء بالجنة، إذا ظننت بالله غير الحق ظن الجاهلية، فقد اغتررت بربك الكريم، لأنَّ الله كريم فكيف تغتر به؟
التعريف الدقيق لاسم الكريم، هو الواجب الوجود المنزّه عن كل عدم وعن كل نقص، العزيز الذي لا إله غيره.
هذا الكلام يُلخّص بصفات ثلاث، وجوده ووحدانيته وكماله، فالله كريم يعني موجود وواحد وكامل.
ومن ثم لابد من شرح هذه التعاريف الدقيقة لهذا الاسم العظيم:
الكريم ؛ هو الذي يبتدئ بالنعمة من غير استحقاق، تفضل علينا وأوجدنا دون أن يكون لنا حق في أن نوجد، ليس لنا حق عنده بل تفضل علينا وأوجدنا، فنعمة الإيجاد ابتدأها الله دون استحقاق منا، أنت كإنسان عندك موظف، وأخلص إخلاصاً شديداً، وقدّم جهداً طيباً ربما تكافئه، فهذه المكافأة، جاءت منك ليس ابتداءً ولكن عّقِبَ إحسانه وإخلاصه، مقابل شيء فعله، أما الكريم الحقيقي، الكريم المطلق هو الذي يبتدئ بالنعمة دون استحقاق، أوجدنا من دون اختيار، ومن دون طلب.
ويتبرع بالإحسان من غير سؤال، فإذا قلت يا كريم العفو.. ما هو العفو الكريم ؟.. قد يعفو عنك شخص، من حين لآخر يقول لك لا تنس أنك فعلت كذا، ثم بعد حين يذكرك: أنت فعلت كذا ؟ فتقول: نعم.. جزاك الله خيراً عفوت عني، من حين لآخر يذكرك بمساءتك، لكنك إذا قلت يا رب، يا كريم العفو، عفو الله عز وجل ليس معناه أن يلغي العقاب فحسب وليس معناه أن ينسي الناس ذنبك أيضاً، ولكن عفو الله معناه، أن ينسيك ذنبك، معنى دقيق جداً، يعني أنت صاحب الذنب، ومن كمال عفوه عنك أنه ينسيك ذنبك. " إذا تاب العبد توبةً نصوحاً أنسى الله حافظيه وملائكته، وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه، وأنساه هو نفسه ما فعل ".
المؤمن ـ من كرم الله عز وجل ـ له جاهلية، و قد ينسى أن له جاهلية، فيعيش في جو لطيف، والله عز وجل يكرمه، هذا معنى كريم العفو.
ومن معاني الكريم أنه يستر الذنوب ويخفي العيوب، إنسان قد يلقى من إنسان آلاف الأعمال الطيبة، فإذا عثر ذات مرةٍ على نقص لديه، تشبث به وأظهره وأذاعه بين الناس، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( اللهم إني أعوذ بك من جار سوء، إن رأى خيراً كتمه، وإن رأى شراً أذاعه اللهم إني أعوذ بك من إمام سوء، إن أحسنت لم يقبل، وإن أسأت لم يغفر ))
لكنَّ الكريم يغفر الذنوب ويستر العيوب، حتى قال بعض العارفين، والله لو عرفوا قبيح طويتي لأبى السلام علي من يلقاني ولأعرضوا عني وملوا صحبتي.
فربنا عز وجل يظهر من عبده الكرم الجميل ويستر القبيح، فإذا قلت يا ستار، ستار العيوب، يجب أن يقشعّر جلدك، لأن الله سبحانه وتعالى إذا ستر.. ستر حقاً، أما الإنسان فلابد من أن يذكر هذا العيب بأن يهمسه بأذن إنسان آخر يقول: انتبه هذا الرجل فيه من العيوب كذا وكذا.. فهو بذلك ما ستره بل شهر به، لكن جميل الستر هو الله سبحانه وتعالى.
ومن المعني الجميلة أن الكريم متغافل، يتغافل، الكريم لا يغفل ولكنه يتغافل، قال تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
(سورة إبراهيم)
سمعت عن رجل كان مفتياً في هذه البلدة الطيبة، قبل أربعين أو خمسين سنة، وكان قاضياً، وجاءته امرأة فأثناء صعودها درج السلم صدر منها صوت كريه فخجلت خجلاً لا حدود له، فلما اقتربت منه، قال ما اسمك يا أختي، قالت له: فلانة، قال: لم أسمع، قالت له: فلانة، قال: لم أسمع ارفعي صوتك، فأنا سمعي ضعيف، فقالت هذه المرأة لأختها لم يسمعنا..
الكريم يتغافل، واللئيم يدقق بالعيوب، يتبّع العيوب.
النبي الكريم كان مع أصحابه في دعوة وليمة وتناولوا طعام الجزور ثم توضؤوا وصلوا الظهر جميعاً، يبدو أن أحد أصحاب رسول الله انتقض وضوؤه من دون قصد، وعرف بعضهم ذلك، فلما أذّنَ العصر قال عليه الصلاة والسلام:
(( كل من أكل لحم جزور فليتوضأ، قالوا: كلنا أكلنا يا رسول الله، قال: اذاً كلكم فتوضؤا ))
لأنه كريم، تغافل عنه فاللئيم يتبّع العوَر، يحمّر الوجوه، يحرج، يفضح فضَّاح، طعَّان، ليس المؤمن بطعّان ولا لعان ولا فاحشٍ ولا بذيء.
الكريم يتغافل واللئيم يتبع ويتحرى، والكريم ؛ إذا استغفره عباده غَفَرَ لهم ولا يذكّرهم بأنواع معاصيهم وقبائحهم وفضائحهم.
مرةً وقفت بمنطقة مشرفة على دمشق، بيوت كثيرة، متقاربة، متراصة، وبعضها يضرب في علاء تعد الشام خمسة ملايين نسمة، تلوت قوله تعالى:
﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)﴾
(سورة الإسراء)
هذه البيوت لا يعلم ما فيها من طاعات أو من معاصٍ إلا الله ومع ذلك يرزقهم ويعافيهم:
(( عبدي لي عليك فريضة ولك علي رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ))
والكريم إذا أتاه عباده بالطاعات اليسيرة قابلهم بالثواب الجزيل.
إنسان يطعم لقمة، هذه اللقمة تصبح يوم القيامة كجبل أحد، لا أعتقد في الدنيا أن أحدٍ يقدم ليرة ويأخذ بدلاً منها خمسة آلاف مليون ليرة، بالآخرة تأخذ أكثر، أعطيت شيئاً يسيراً، قمت ببعض الطاعات أنفقت بعض مالك، ضبطت شهواتك، التزمت طريق الحق، فأعطاك الجنة وما فيها قال تعالى:
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)﴾
(سورة آل عمران)
الله الكريم جعل هذا العبد الحقير، هذا العبد الضعيف، هذا العبد الذليل يرتفع، أجل، رفعه فقال:
﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)﴾
(سورة البقرة)
فهل لنا عهد ؟ كأننا ند إلى ند، ولكن هذا من كرم الله عز وجل إذا خاطبنا، وحينما خاطبنا علّلَ أوامره، وتعليل الأوامر إكرامٌ لنا قال تعالى:
﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(45)﴾
(سورة العنكبوت)
الإنسان القوي يعطي أمراً لإنسان ضعيف دون تعليل افعل كذا فقط، ولكن الله عز وجل حينما أمرنا ذكر لنا التعليل كرماً منه وتطميناً لنا، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾
(سورة البقرة)
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾
(سورة التوبة)
فلذلك جعلنا أهلاً لمعاهدته فقال:
﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وإيَّايَ فَارْهَبُونِي ﴾
الله كريم، والكريم جعلنا أهلاً لمحبته، قال تعالى:
﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾
(سورة المائدة من الآية 54)
﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً (96)﴾
(سورة مريم)
الله الكريم أعطانا الدنيا كلها، والدليل قوله تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)﴾
(سورة البقرة)
أما الهواء، فهل الهواء في قائمة النعم عندكم ؟ أجل، نعمة بلا ثمن فأنت تستنشق الهواء في أي مكان، وكذلك الماء، هذا الذي تدفعه ثمن الطعام، هذا شيء رمزي، من منكم يُصدّق أنه يدفع ثمن التفاح، هذا ثمن خدمة التفاح، فالتفاح ليس له ثمن، فهذا الفلاح الذي اعتنى بهذا البستان وسقاه وسمّده وقطف الفواكه وجاء بها إلى السوق، فأجرته ثمن كيلو التفاح، أما التفاح فلا يُقدّر بثمن إذ هو من الله عز وجل.
والآخرة أيضاً ملَّكها لعباده المؤمنين وسخّرَ الله سبحانه وتعالى ما في السماوات والأرض جميعاً منه، تسخير تكريم وتسخير تعريف.
الكريم هو الذي يعطي من غير مِنّة، من الصعب أن ترى إنساناً يعطيك بلا مِنّة، بل يقول لك " لحمك من خيري، أنا فضلت عليك، أنا أنقذتك من العدم، أنت كنت لا شيء ". لكن العطاء من الله سبحانه وتعالى من غير مِنّة.
ولا يحوجك إلى وسيلة، أحياناً لا تعطي الشخص حتى تستنفذ طاقاته: قدم طلب أولاً، هات هويتك، اذهب واحضر بعد أسبوع، تعال بعد يومين، سنجري تحقيق، يكره العطاء لشدة التحقيقات وكثرة التأجيلات والتأخيرات والتعقيدات والوثائق، أما الكريم لا يحوجك إلى وسيلة. والكريم لا يُقنط العصاة من توبة، قال تعالى:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
(سورة الزمر)
الكريم ؛ إذا أعطى أجزل، وإذا عصي أجمل.. حليم.
الكريم ؛ هو الذي لا تتخطاه الآمال.. أحياناً يأتيك إنسان ويعرض عليك حاجته، ويتذلل، ويبذل ماء وجهه، فترده بعدها، فيمحوك من قائمته، ويلغيك من مخيلته، لأنك خيّبت أمله، لكنك لا تجد إنساناً يسأل الله عز وجل ويخيبه فهذا مستحيل، لا تتخطاه الآمال.. إذا أولى فضلاً أجزله ثم ستره، يعني الإنسان الكريم إذا أعارك بذلته، فقد يقول لك أمام الناس: ارتديها لا شيء عليك، يفضحك أمام الناس. كثيراً ما تلاحظ مثل ذلك على شخص أعطى حاجة إلى إنسان آخر، أو أعاره إياها، فيمن بها أو يعرّض بآخذها.
والكريم دائم المعروف كثير النوال، ذو الطول والإنعام يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، هذه كلها أوصاف قرآنية.
وإن الله حيّيٌ كريم، ومن حيائه وكرمه أنه يستحيي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما خائبتين.
" يا ابن آدم كبرت سنك وانحنى ظهرك، وضَعُفَ بصرك، وشاب شعرك فاستحِ مني فأنا أستحي منك.
وفي الحديث القدسي:
(( ما أنصفني عبدي، أستحي أن أعذبه ولا يستحي أن يعصيني))
(( وما قال عبد قط يا رب ثلاثاً إلا قال الله لبيك يا عبدي ))
بل إنَّ الكريم يغضب على من لا يسأله، قال عليه الصلاة والسلام:
(( إن الله عز اسمه كريم يحب مكارم الأخلاق ويبغض سفاسفها ))
سفاسف الأمور يعني أن يرى شخصاً سخيفاً، والموضوع المعالج سخيف جداً وهو بخيل زيادة، وأناني، ومحور حياته مصالحه، هذه سفاسف الأمور، أما إذا اطلّع على قلبك فرآه قلباً يهتم لعامة المسلمين وقضاء حاجاتهم فهذا من مكارم الأخلاق، فالله عز وجل لا ينظر إلى صوركم، فهذا طويل وذاك قصير، هذا عيونه كبيرة، وذاك عيونه صغيرة، هذا ناتئ الوجنتين، والآخر غائر العينين، هذا حواجبه متصلة وغيره منفصلة، خده أسيل.
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ اِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ اِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ))
(صحيح مسلم)
والقلب محل نظر الرب.
قالوا: الكريم الذي لا يبالي كم أعطى ولا لمن أعطى، بل إن الكريم من إذا رُفعت حاجة إلى غيره لا يرضى.
أحياناً يقصد شخصاً إنساناً كريماً فيقول له: إياك أن تسأل أحداً غيري، حاجتك عند يمضمونة، فهذه أعلى درجة في الكرم، أنا أغضب لو سألت غيري.
تصوّر إنساناً محتاجاً والأمر كله بيد الله عز وجل، يقف أمام إنسان ضعيف حقير، لئيم يتذلل له، يبذل ماء وجهه أمامه، ثم يرده، ولكن الله سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين، فلذلك الكريم من إذا رُفعت حاجة إلى غيره لا يرضى.
الكريم من إذا جُفي عاتب وما استقصى، وعدك أحدهم أن يزورك، لم يأتِ، عاتبته، قال لك ابنتي كانت مريضة، ثم اتصلت بجاره فقال: صحيح كانت ابنته مريضة، هذا اسمه استقصاء، هو استحيا منك فقدّم عذراً، من الكرم ألا تستقصي الأمر، بل الاستقصاء في هذه المواقف مثلبة.
إنسان اعتذر منك فقل في نفسك: جاءني أخي متنصلاً من ذنبه، فاقبل منه محقاً كان أو مبطلاً، هناك أشخاص، عندهم نفسٌ طويل، فكلما اعتذر إنسان إليهم يتبعون الأمر ويلاحقونه ؛ يقولون: ظَهَرَ كذاباً، ابنته غير مريضة، هو نسي الموعد واستحيا منك فاعتذر بمرض ابنته، فالكريم ؛ من إذا جُفي عاتب ولم يستقصِ.
حديث أسرَّهُ النبي إلى بعض أزواجه، فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض، لن تكون كريماً إلا إذا غضضت البصر عن تسعة أشياء وحاسبت على العاشر، كثرة العتاب تورث البغضاء، فالكريم عرف بعضه وأعرض عن بعض.
الكريم ؛ لا يُضيّع من لاذ به، ولا يضيع من التجأ إليه، هذه تعاريف دقيقة جداً، الملخص يجب أن تعتمد على الله وحده، وأن تلتجئ إليه، وأن تُعلّق عليه كل الآمال، وأن تقطع آمالك من البشر جميعاً، إذا كنت ترغب في أن تسعد في الدنيا والآخرة، فحيثما تعلقت بالبشر، واعتمدت عليهم وعقدت عليهم الآمال خيبوك.
رجل له صديق تولى منصباً رفيعاً، عرضت له حاجة، فذهب إليه، فأقسم بالله أنه وقف أمام مكتبه، ولم يقل له تفضل استرح، وعندما سأله عما يريد قال: كذا، قال: " ما في موافقة "، صديق، فهل أصابه مرض قصر البصر، فلم يعد يرى ؟ لكن الكريم يُغنيك عن الوسائل والشفعاء، واعلم أن المعروف بتمامه، أن تكرم إنساناً عفواً وسماحة، دون أن تمُنَّ عليه، دون أن تضعه أمام عقبات تعجيزية. الكريم من إذا هجرته وصلك.
أحياناً تجد إنساناً بائساً مهتزاً فقيراً مثلاً، أموره مضطربة، متداخلة، فتنفر نفسه من الدين، تراه يترك الصلاة، لكن الله عز وجل لا يدعه، فقد يُكرمه رغبة في جبر خاطره، فيحل مشكلته، ويريه مناماً طيّباً، فالعبد هجر لكن الله عز وجل وصل.
الكريم من إذا هجرته وصلك، إذا مرضت عادك، إذا وافيت من سفر زارك، إذا افتقرت أحسن إليك، فمن أدقّ معاني الكرم، أنَّ الكريم من بني البشر إذا رفعت إليه حاجة عاتب نفسه، لِمَ لمْ يبادرْ إلى قضائها قبل أن تسأله هذه الحاجة ؟ هذا واللهِ معنى دقيق.
أحياناً يكون لك أخ وافتقر، وكانت حالتك المادية جيدة، وهذا الأخ له كرامته ومكانته وعِزتَهُ ولكنه افتقر، يجوز أن ينسحق سحقاً ولا يسألك، لكن ربما سألك، فاعلم علم اليقين عندئذٍ أنك لما أحوجته إلى أن يسألك فقد أسأت إليه دققوا في هذا الكلام، إذا كنت كريماً فعلاً فعليك أن تتقصى شؤون إخوانك وأقربائك، وأخواتك ولا تُحوجهم إلى أن يسألوك، فالكريم فمن إذا رفعت إليه حاجةٌ عاتب نفسه لِمَ لمْ يبادرْ إلى قضائها قبل أن يسأل.
وبعد، فما حظ العبد من هذا الاسم ؟ قال العلماء: قد يتصف العبد بأنه كريم، هذا العبد الكريم إن ألحّ عليه أحد بطلب، أو زُرهُ وبقي في زيارته ثلاث ساعات مثلاً، فإنه يتأفف ويتضايق، ويسكت، ثم لا يلبث أن يقول للزائر: عندي موعد، فإذا ألح عليه بالطلب مرات عديدة يضجر، وقد ينهره، وقد يقسو عليه، إذ لا يمكن أن يكون الإنسان كريماً كرماً مطلقاً، فكرم الإنسان كرم نسبي، ألا هكذا فلتعلم، لكنَّ الكريم كرماً مطلقاً هو الله وحده، إن الله يحب المُلحين في الدعاء أحضر لي إنساناً واحداً يحب من يُلِّح عليه.. بل سيقول: يا أخي أضجرتني، سأخرج من جلدي منك، يا أخي اذهب عني.
هذا الإنسان الكريم، أما الله عز وجل " إن الله يحب الملحين في الدعاء " من لا يدعني أغضب عليه، الإنسان كي يكون كريماً يجب أن يتجاوز عن ذنوب المسيئين، ويجب أن يوصل النفع إلى جميع الخلق، أحياناً ترى بلداً متقدماً والمواطن في هذا البلد يحيى أرقى حياة، له حقوق كثيرة جداً، الطعام، الشراب، المسكن، أنواع الأطعمة، الحريات، لكن هذا البلد المتقدم الذي يوفر لمواطنيه حياة رفيعة المستوى، ينهش بلحوم بقية الشعوب، إذاً هؤلاء ليسوا كرماء هؤلاء أنانيون، إذ بنوا أمجادهم وحضارتهم ورفاه شعبهم وغِنى أبنائهم وتوافر الحاجات عندهم على نهب ثروات الآخرين، وعلى قهر الآخرين، وعلى سرقة ثرواتهم، هؤلاء ليسوا كرماء، لن تكون كريماً إلا إذا عمَّ نفعك كل الناس وكل الخلق حتى الحيوانات.
عندهم في المداجن ؛ إذا كان إنتاج الصيصان أكثر مما هم بحاجة إليه يضعونه في حراق ويتلفونه، هكذا في أوروبا، نعم، هكذا التعليمات.
هل يفعل هذا مسلم ؟ صوص يُسبّح الله عز وجل تحرقه، ماذا عمل ؟ اجعله ينمو واذبحه وكله، واستفد منه ولك أجر بهذا العمل، أما أن تحرقه بنار الدنيا فهذا اللؤم كله.
لن تكون كريماً إلا إذا عمَّ خيرُكَ الناس جميعاً وأنا أقول لكم والله إذا أسأت إلى مجوسي، أو إلى عابد صنم أو إلى مُلحد، والله هذه الإساءة إثمها أضعاف مضاعفة عن إساءتك لمسلم، لأن هذا عرف الدين من خلال إساءتك أنه عدوان، فأبعدته عن الدين بهذه الإساءة.
الكريم من بني البشر صفوح عن الذنوب ستّار للعيوب تارك للانتقام مسبغ للإنعام.
سمعت حادثة أن إنساناً كان على وشك أن يلقي كيس القمامة في الحاوية فرأى كيساً فيه حركة، دُهش، أخذ الكيس المتحرك ففتحه فإذا فيه طفل قد ولد حديثاً، يبدو أنه ألقي منذ نصف ساعة، أخذه إلى البيت، ثم أسرع به إلى المستشفى، ووضعه في الحاضنة، واعتنى به، إلى أن أصبح هذا الجنين طفلاً، أدخله المدرسة، حتى أنهى الابتدائية، ثم الإعدادي ثم الثانوي، سمعت أنه اعتنى به عناية كبيرة، والخبر انتهى إلى هكذا، فلو أن هذا الإنسان تابع العناية، حتى خرجه طبيباً مثلاً، وطلب اختصاصاً فأرسله إلى بلد متقدم وجاءه ببورد، ثم اشترى له عيادة، زوّجَهُ ابنته، أعطاه رأس مال، هذا الإنسان الذي لقي كل هذا الإنعام، ما موقفك ممن أنعم عليه؟.
هذه الحادثة ذكرتني بموقف الصحابي الجليل عبد الله بن رواحه، لما رأى صاحبيه قد استشهدا وهو على وشك موت سريع جداً قال:
يانفس إلا تقتلي تموتـــي هــذا حمام الموت قد صليت
إن تفعلي فعلهما فقد رضيت وإن توليت فقد شقيــت
***
أروي الحادثة إن صحت كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قتل وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم سكت النبي، فقالوا ما فعل عبد الله قال: ثم أخذها عبد الله وقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه، يعني هبطت مكانته درجة في الجنة لأنه تردد.. ))
وعودة إلى هذا الجنين الذي كان في الحاوية، إذ بعد ما أصبح طبيباً معه بورد كما يتراءى لنا وبينما وهو راكب سيارة، شاهد عمه الذي التقطه من الحاوية، قال له: يا بني أوصلني إلى البيت، تردد خمس ثوان، ثم قال له إلى البيت. قال: نعم، تفضل. هذا التردد إجرام بحق هذا العم. كان في الحاوية وكان موته محققاً، صنع منه طبيباً يحمل شهادة بورد، فهذا إنسان فكيف خالق الأكوان ؟ من أنت ؟.. عندك في البيت كتاب قديم مطبوع سنة ألف وتسعمائة وثلاثين مثلاً وأنت ولدت في السنة التاسعة والثلاثين أو في الأربعين أو في الستين، فعندما صفوا الحروف ليطبعوه أين كنت أنت ؟.. عندما ألفه المؤلف أين كنت ؟ وقت باعوه أين كنت ؟ وقت أن نشروه أين كنت ؟
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)﴾
(سورة الإنسان)
فلذلك حق الله كبير كبير، قال الله سبحانه وتعالى في حق المنافقين:
﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)﴾
(سورة التوبة)
فحينما اقترب أجل النبي أَسرَّ إلى سيدنا حذيفة سراً إذ ذكر له سبعة عشر اسماً وقال له هؤلاء إذا ماتوا لا تصلوا عليهم، لأنَّ الله نهانا عن أن نصلي عليهم، هكذا الآية:
﴿ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ اِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾
فسيدنا حذيفة أمين سر رسول الله، ثم جاء سيدنا الصديق خليفة من بعده، ثم مات سيدنا الصديق، وجاء سيدنا عمر من بعده، سيدنا عمر عملاق الإسلام، الخليفة الراشد، ثاني الخلفاء الراشدين، جاء إلى حذيفة وقال له: يا حذيفة أنشدك الله هل ذكر اسمي بينهم.. والله ما قالها تمثيلاً، لا والله، والله قالها صادقاً، قال له: أنشدك الله هل ذكر اسمي بينهم وذلك لِعظَمِ حق الله عليه، فقد خاف الله أن يكون قد زلت قدمه. ثم قال: لعلي مقصر، لعلي منافق، لو عثرت بغلة في العراق لحاسبني الله عنها، جاءه ليلاً من أذربيجان رسول، كره أن يطرق بابه ليلاً، جاء للمسجد فرأى رجلاً يصلي ويبكي، ويقول: يا رب هل قبلت توبتي حتى أهنئ نفسي أم رددتها حتى أعزيها قال له: من أنت قال أنا عمر، قال: ألا تنام الليل، قال له يا أخي: إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي، في الصباح خيره أتحب أن تأكل مع فقراء المسلمين.. الفقراء يأكلون اللحم، أم تحب أن تأكل عندي ؟ لا بل آكل عندك يا سيدي، أنت الخليفة، ذهب به إلى بيته فما وجد عنده إلا الخبز والملح فقط، ثم قال له: ما الذي جاء بك إلينا ؟ قال جئتك بهذه الهدية من أذربيجان، علبة فيها حلوى، لكنها من الدرجة الأولى، قال: أو يأكل عندكم هذا الطعام عامة المسلمين، قال: لا. هذا طعام الخاصة، الطبقة الراقية، الغنية، فأرسل كتاباً إلى عامله على أذربيجان عنفه فيه وقال له: كل مما يأكل عامة المسلمين وقال له: أعط هذه الهدية لفقراء المسلمين في المدينة، وحرام على بطن عمر أن يذوق طعاماً لا يطعمه فقراء المسلمين.
ورأى عمر إبلاً سمينة في الطريق، فقال: لمن هذه الإبل، قالوا: هي لابنك عبد الله، قال: ائتوني به، قال له بقسوة لمن هذه؟ قال: هذه إبلي اشتريتها بمالي وبعثت بها إلى المرعى لتسمن. فهل أخطأت أو أسأت ؟ فقد اشتريتها بمالي، وأُسمِّنُها لأبيعها وأرتزق بها، قال له: ويقول الناس ارعوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، اسقوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المؤمنين.
ولأنك أنت ابني سمنت هذه الإبل، ثم قال له: بِعّ هذه الإبل وخذ رأس مالك ورد الباقي لبيت مال المسلمين.
ومرةً بينما هو جالس مع أصحابه، قال أحدهم: والله ما رأينا من هو خيرٌ منك بعد رسول الله، والله كلام لطيف كان عليه أن يقول: بارك الله فيك لكنه أحدَّ إليهم النظر، حتى كاد أن يسحقهم بنظراته، إلى أن قال أحدهم: لا والله ؛ لقد رأينا من هو خير منك. قال: من هو ؟ قال: أبو بكر، فقال رضي الله عنه: كذبتم جميعاً وصدق.. عدَّ سكوتهم كذباً، قال: والله كنت أضل من بعيري وكان أبو بكر أطيب من ريح المسك.
هذا الذي سأل أحد عماله، قال: ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب، قال: أقطع يده، قال له: إذاً، من جاءني من رعيتك جائع أو عاطل فسأقطع يدك، إن الله قد استخلفنا على خلقه لِنَسِدَّ جوعتهم ونَستُرَ عورتهم ونوفر لهم حِرفَتَهُم، إن وفيناهم ذلك تقاضيناهم شُكرها، إن هذه الأيدي خُلقت لتعمل فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية.
هذا الخليفة الذي قال لسيدنا حذيفة: أنشدك الله هل ذكر اسمي بين أسماء المنافقين ؟ قال: لا والله أنت أكرمنا وأنت أرحمنا، وأنت كذا.. خجل سيدنا حذيفة، فهذا الكرم.
هذا الاسم الإلهي العظيم، أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نتخلّق بأخلاق الله، هذا الكرم، أن تصل من قطعك، وأن تعفو عمن ظلمك، وأن تعطي من حرمك، وأن يكون صمتك فكراً ونطقك ذكراً ونظرك عبرةً.
وبعد، فإني أسوق إليكم واقعتين بل أكثر من ذلك: إن سيدنا موسى حينما ناجى ربه، قال يا رب: إنه لتعرض إلي الحاجة أحياناً فأستحي أن أسألك، أفأسأل غيرك ؟ فأوحى الله إليه: أن يا موسى لا تسأل غيري، وسلني حتى ملح عجينك وعلف شاتك.
ربنا عز وجل يحب الملحين، لِمَ لا تسألوه في السجود في صلاة السحر ؟ لم لا تسألوه عن حاجاتكم كلها ؟
حُكِيَ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه جاءه إنسان ليلة يسأله حاجة، فقال: يا غلام ارفع السراج، ولما رفع السراج: قال سلني حاجتك، لماذا فعل هذا ؟ قال: لئلا أرى في وجهه ذُلَّ السؤال، حتى لا يُحرج، فلا يخجل إن عرفنا من هو، هذا من كرم سيدنا علي.
وكذلك أحد العلماء، كان لا يناول الفقير شيئاً بيده، بل يضعه على الطاولة ثم يقول له: خذه. لئلا تكون يده عُليا ويد الفقير سفلى.
يُحكى عن أبان بن عياش " أبان أحد الصحابة أما عياش ليس صحابياً "، يحكى عن أبان بن عياش، أنه قال خرجت يوماً من عند أنس ابن مالك في البصرة، فرأيت جنازةً يحملها أربعة من الزنج، ولم يكن معهم رجل آخر، قلت سبحان الله، سوق البصرة وجنازة رجل مسلم لا يشيعها أحد فلأكونن خامسهم، " إذا رأى رجل جنازة ومشي فيها فهذا حسن وله أجر ولو لم يعرف صاحبها المحمول وليتبعها حتى القبر، وإذا فتحوا النعش ورأى ماذا فُعل بهذا الميت وكيف وضع في القبر، وكيف أهيل التراب عليه، لأن في معالجة جسد خاوٍ لعبرة "، فتتبع الجنازة، ثم قال: فمضيت معهم فلما وضعوها بالمصلى، قالوا لي: تقدم. قلت: أنتم أولى، قالوا كلنا سواء لا نعرفه، حتى دفنوه، وصليت عليه، وقلت لهم ما القصة، قالوا اسأل هذه المرأة، فهناك امرأة واقفة بعيداً فلما سألتها، قالت: هذا ابني كان مذنباً، وقال لي يا أماه إذا مت فلا تُخبري بوفاتي جيراني لئلا يشمتوا بي، واكتبي على خاتمي لا إله إلا الله محمد رسول الله واجعليه في كفني فلعلَّ الله تعالى يرحمني، وضعي رجلك على خدي وقولي هذا جزاء من عصى الله، فإذا دفنتني فارفعي يديك إلى الله تعالى وقولي إني راضية عنه.
أعطاها معلومات دقيقة، لم تخبر أحداً، ووضعت رجلها على خده بعد الموت قالت هذا جزاء من عصى الله، تقول هذه المرأة فما رفعت يدي إلى السماء حتى سمعت صوته بلسان فصيح يقول: انصرفي يا أماه فقد قدمت على رب كريم.. هذا سِرّ القصة.
فإذا كان الإنسان يخاف الله عز وجل ويستحي منه فهذه فضيلة، أما الأكمل للإنسان أن يكون بالرخاء تائباً منيباً مستقيماً وباب رحمة الله واسع.
أرجو الله سبحانه وتعالى أن يتغمدنا برحمته، وأن يلهمنا أن نكون كرماء لأنه كريم، والكريم بالمعنى الموجز ما كان خالياً من كل شائبة فكتاب كريم ومقام كريم ورب كريم وإنسان كريم ومؤمن كريم.
يعني الكذب والنميمة والغيبة وتتبع العورات هذه كلها تقدح بكرم الإنسان بل ليسمح لي القارئ الكريم أن أقول: أن هذه المثالب سلبت صاحبه أي فضل وكرم، وأبقت عليه اللؤم وخزي الأحدوثة.
والحمد لله رب العالمين
اسم الكريم ؛ ثابت بنص القرآن الكريم، وسوف يتضح بعد قليل ما معنى اسم " القرآن الكريم "، وهو ثابت في قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (﴾
(سورة الانفطار)
وهذه الآية تخاطب القلب والعقل معاً، وقد ورد هذا الاسم بصيغة اسم التفضيل في آية أخرى بقوله تعالى:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5)﴾
(سورة العلق)
فالكريم في قوله تعالى:
﴿ يَاأَيُّهَا الاِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾
والأكرم في قوله تعالى:
﴿ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الاِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾
قبل أن نصل إلى ما تعنيه كلمة كريم في حق الله جل وعلا نريد أن نبدأ الحديث بما تعنيه كلمة كريم في التعامل اليومي، فكلمة كريم نستخدمها كثيراً، فقال العلماء: " كل صفة محمودة تسمى كرماً على خلاف ما يظنه معظم الناس "، من أن فلاناً كريم يعني أنه يعطي، وعطاؤه كثير.
فكلمة كريم شاملة واسعة: فالحلم كرم، السخاء كرم، اللطف كرم، الصبر كرم، المروءة كرم.. فالكرم يعني أيّة صفة حميدة يتصف بها الإنسان، بل إن الصفات الحميدة كلها تلخص بكلمة واحدة هي الكرم، بينما الصفات الخسيسة كلها تلخص بكلمة واحدة هي اللؤم.
وعلى النقيض الذل وهو: أن يقف الكريم بباب اللئيم، فالخسيس لئيم والمتكبر لئيم، والجحود لئيم، والذي يحب ذاته على حساب الآخرين لئيم، والبخيل لئيم، كل الصفات الخسيسة تجمعها كلمة لئيم، وكل الصفات المحمودة تجمعها كلمة كريم، فالناس رجلان ؛ كريم ولئيم.
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
أعلمه الرماية كل يــوم فلما اشتد ساعده رمانــي
وكم علمته نظم القوافي فلما قال قافية هجانــــي
***
والواقع يثبت أن: الناس رجلان برٌّ كريم، وفاجر لئيم، هكذا قال عليه الصلاة والسلام..
فليس معنى كريم الذي يُعطي العطاء الكثير فقط، بل إن الحليم كريم، اللطيف كريم، الرحيم كريم، الصافي كريم، الودود كريم، المُنصف كريم، ومنه حجر كريم: اللؤلؤ، الألماس، الياقوت، المرجان.
محمد بشر وليس كالبشر بل هو ياقوتة والناس كالحجر
***
فالياقوت حجر لكنه كريم، والماس حجر لكنه كريم.
ومن معاني الكريم من كان كريم النسب، من هو الكريم بن الكريم ابن الكريم بن الكريم ؟ إنه سيدنا يوسف، قال عليه الصلاة والسلام:
(( يوسف أكرم الناس ))
أو نقول: فلان كريم الطرفين، يعني أمه كريمة وأبوه كريم، فقد حاز الشرف من طرفيه، من طرف أمه وأبيه.
من معاني الكريم من كان ذا صورة حسنة، والدليل قول الله عز وجل حينما وصف سيدنا يوسف، قال الله عز وجل:
﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)﴾
(سورة يوسف)
فالكرم يُستعمل بمعنى النسب الشريف، ولا يُتحدث عن شرف النسب إلا بعد معرفة الله وتطبيق منهجه، فإذا تحدثنا عن النسب فقط ؛ فقد يعني نسب الدنيا المتعارف عليه عند الناس، فأبو لهب بن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ والقارئ الكريم يعرف من أبو لهب:
﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2)﴾
(سورة المسد)
أنا جد كل تقي ولو كان عبداً حبشياً.
لا نتحدث عن النسب إلا بعد الإيمان، إذا أضيف النسب إلى الإيمان فهو نور على نور، أما قول الشاعر:
جمال الوجه مع قبح النفوس كقنديل على قبر المجوسي
***
فإنما يعزز المعنى من أن المرء الجميل الخلقة، لابد له من خلق ودين يجمله كذلك، فتتم الصورة حسنةً صافية.
أما المقام الكريم ؛ فهو الجنة، فلا تعب هناك ولا نصب ولا خوف ولا حزن ولا حسد ولا تباغض، ولا شيء يزعج، ومن كان ذا مقام كريم في الجنة فقد فاز حفاً.
ومن معاني الكريم ؛ الشيء العزيز، الذي تشتد الحاجة إليه يحتاجه كل شيء في كل شيء، ويقلُ وجوده ولا يستغنى عنه إطلاقاً، والدليل قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾
(سورة الحجرات)
والكريم الشيء الذي تكثر منافعه، قال تعالى:
﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)﴾
(سورة النمل)
كتاب كريم ؛ كله منافع، كله فوائد، كله حقائق، كله توجيهات صائبة، كله خيرات، كله بركات، إذاً معنى القرآن الكريم صار واضحاً: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، القرآن الكريم ليس فيه باطل ولا غلط، ليس فيه خلل ولا تناقض، وليس فيه مخالفة للواقع، ولا ضعف في أسلوبه، ولا إثاثة، ليس فيه معالجة سريعة، ولا معالجة متناقضة، قرآن كريم، خلا من كل شائبة، يعني المعنى الذي يجمع كل هذه المعاني، الكرم، يعني الكمال، قرآن كريم أي: خلا من كل عيب.
كذلك، نقول ناقة كريمة، أي غزيرة اللبن، درها كثير، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما أرسل سيدنا معاذاً إلى اليمن، قال له:
((عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ ابْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: إِنَّكَ سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فإذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إلَى أَنْ يَشْهَدُوا أَنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فإنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فإنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فإنْ هُمْ أَطَاعُوا لَكَ بِذَلِكَ فإيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فإنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ))
(أخرجه البخاري أول الزكاة، ومسلم في الإيمان، وأبو داود باب في زكاة السائمة، والنسائي، وابن ماجة، وأحمد في المسند)
كرائم أموالهم ؛ يعني إن كان عنده بقرة يحرص عليها حرصاً شديداً فدعها له وخذ بقرة أخرى يختارها لك هو، لا كما يفعل بعض الناس، يأخذ ما يعجبه وهذا يتعارض مع السُنة الشريفة، فالسنة كما قال له:
(( إياك وكرائم أموالهم ))
وسُمي العنب كرماً لأنها فاكهة كثيرة الخير، ظل ظليل، وثمار يانعة وقطوف دانية، وغذاء جيد وفاكهة محببة.
أحياناً ينصب الناس خياماً على مداخل البيوت هذه الخيام من حين لآخر تتمزق، تعصف بها الرياح، تتلفها الأمطار، ولكن أناساً يزرعون الكرم على مداخل البيوت، فهذا الكرم ظل ظليل وفاكهة دانية ويانعة ومفيدة وإلى ما شاكل ذلك.
وإذا قلنا مكارم الأخلاق، يعني أفضلها وأحسنها وأرفعها وأسماها.. فهناك إذاً مكارم الأخلاق، والكرم وهو العنب، وهناك ناقة كريمة كثيرة الدَّرِّ، وهناك الكتاب الكريم، كثير الفوائد، وهناك الأحجار الكريمة الصافية من كل شائبة، وهناك العزيز، الشيء النادر، وهناك مقام كريم، وهناك الجمال الصوري:
﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31)﴾
(سورة يوسف)
فإذا قلت: قرآن كريم يعني كتاب الله، فالله سبحانه وتعالى كماله مطلق وكلامه في كماله مطلق، فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه. وقال بعض الشعراء:
وحمل الزاد أقبح كل شيء إذا كان القدوم على الكريم
***
الآن إذا وصفنا الله سبحانه وتعالى، كما وصف هو نفسه، بأنه كريم:
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)﴾
[سورة الانفطار]
كلمة ما غرك، ما الغرور ؟.. الغرور أن ترى علبة مثلاً في الأرض فتظنها شيئاً ثميناً، تنكب عليها وتلتقطها، فإذا هي علبة فارغة، ظننت فيها قطعة ألماس أو ظننت فيها قطعة ذهب، أو ساعة ثمينة فانكببت عليها، فإذا هي علبة فارغة، هذه الحادثة اسمها الغرور، أنت اغتررت بها، هذا المعنى هل يمكن أن ينسحب على هذه الآية، لا..
﴿ يَاأَيُّهَا الاِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾
المعنى الذي يليق بهذه الآية هو أنك إذا ظننت أن هذا القاضي مثلاً يقبض الرشوة، فإذا أعطيته مالاً حكم لك وأنت ظالم، فأنت اغتررت بنزاهة هذا القاضي، فإذا قلنا
﴿ يَاأَيُّهَا الاِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾
يعني ظننت به غير الحق، وظننته غير عادل، وظننته غير رحيم، وظننته غير قدير، إذاً نفيت عنه القدرة والرحمة والعدل والإنصاف، بل هو لا ينسى عباده المؤمنين، وكما أنه لن يضع الذين أفنوا حياتهم في طاعته في النار، وكذلك لن يُكافئ الذين ناصبوه العِداء بالجنة، إذا ظننت بالله غير الحق ظن الجاهلية، فقد اغتررت بربك الكريم، لأنَّ الله كريم فكيف تغتر به؟
التعريف الدقيق لاسم الكريم، هو الواجب الوجود المنزّه عن كل عدم وعن كل نقص، العزيز الذي لا إله غيره.
هذا الكلام يُلخّص بصفات ثلاث، وجوده ووحدانيته وكماله، فالله كريم يعني موجود وواحد وكامل.
ومن ثم لابد من شرح هذه التعاريف الدقيقة لهذا الاسم العظيم:
الكريم ؛ هو الذي يبتدئ بالنعمة من غير استحقاق، تفضل علينا وأوجدنا دون أن يكون لنا حق في أن نوجد، ليس لنا حق عنده بل تفضل علينا وأوجدنا، فنعمة الإيجاد ابتدأها الله دون استحقاق منا، أنت كإنسان عندك موظف، وأخلص إخلاصاً شديداً، وقدّم جهداً طيباً ربما تكافئه، فهذه المكافأة، جاءت منك ليس ابتداءً ولكن عّقِبَ إحسانه وإخلاصه، مقابل شيء فعله، أما الكريم الحقيقي، الكريم المطلق هو الذي يبتدئ بالنعمة دون استحقاق، أوجدنا من دون اختيار، ومن دون طلب.
ويتبرع بالإحسان من غير سؤال، فإذا قلت يا كريم العفو.. ما هو العفو الكريم ؟.. قد يعفو عنك شخص، من حين لآخر يقول لك لا تنس أنك فعلت كذا، ثم بعد حين يذكرك: أنت فعلت كذا ؟ فتقول: نعم.. جزاك الله خيراً عفوت عني، من حين لآخر يذكرك بمساءتك، لكنك إذا قلت يا رب، يا كريم العفو، عفو الله عز وجل ليس معناه أن يلغي العقاب فحسب وليس معناه أن ينسي الناس ذنبك أيضاً، ولكن عفو الله معناه، أن ينسيك ذنبك، معنى دقيق جداً، يعني أنت صاحب الذنب، ومن كمال عفوه عنك أنه ينسيك ذنبك. " إذا تاب العبد توبةً نصوحاً أنسى الله حافظيه وملائكته، وبقاع الأرض كلها خطاياه وذنوبه، وأنساه هو نفسه ما فعل ".
المؤمن ـ من كرم الله عز وجل ـ له جاهلية، و قد ينسى أن له جاهلية، فيعيش في جو لطيف، والله عز وجل يكرمه، هذا معنى كريم العفو.
ومن معاني الكريم أنه يستر الذنوب ويخفي العيوب، إنسان قد يلقى من إنسان آلاف الأعمال الطيبة، فإذا عثر ذات مرةٍ على نقص لديه، تشبث به وأظهره وأذاعه بين الناس، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( اللهم إني أعوذ بك من جار سوء، إن رأى خيراً كتمه، وإن رأى شراً أذاعه اللهم إني أعوذ بك من إمام سوء، إن أحسنت لم يقبل، وإن أسأت لم يغفر ))
لكنَّ الكريم يغفر الذنوب ويستر العيوب، حتى قال بعض العارفين، والله لو عرفوا قبيح طويتي لأبى السلام علي من يلقاني ولأعرضوا عني وملوا صحبتي.
فربنا عز وجل يظهر من عبده الكرم الجميل ويستر القبيح، فإذا قلت يا ستار، ستار العيوب، يجب أن يقشعّر جلدك، لأن الله سبحانه وتعالى إذا ستر.. ستر حقاً، أما الإنسان فلابد من أن يذكر هذا العيب بأن يهمسه بأذن إنسان آخر يقول: انتبه هذا الرجل فيه من العيوب كذا وكذا.. فهو بذلك ما ستره بل شهر به، لكن جميل الستر هو الله سبحانه وتعالى.
ومن المعني الجميلة أن الكريم متغافل، يتغافل، الكريم لا يغفل ولكنه يتغافل، قال تعالى:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾
(سورة إبراهيم)
سمعت عن رجل كان مفتياً في هذه البلدة الطيبة، قبل أربعين أو خمسين سنة، وكان قاضياً، وجاءته امرأة فأثناء صعودها درج السلم صدر منها صوت كريه فخجلت خجلاً لا حدود له، فلما اقتربت منه، قال ما اسمك يا أختي، قالت له: فلانة، قال: لم أسمع، قالت له: فلانة، قال: لم أسمع ارفعي صوتك، فأنا سمعي ضعيف، فقالت هذه المرأة لأختها لم يسمعنا..
الكريم يتغافل، واللئيم يدقق بالعيوب، يتبّع العيوب.
النبي الكريم كان مع أصحابه في دعوة وليمة وتناولوا طعام الجزور ثم توضؤوا وصلوا الظهر جميعاً، يبدو أن أحد أصحاب رسول الله انتقض وضوؤه من دون قصد، وعرف بعضهم ذلك، فلما أذّنَ العصر قال عليه الصلاة والسلام:
(( كل من أكل لحم جزور فليتوضأ، قالوا: كلنا أكلنا يا رسول الله، قال: اذاً كلكم فتوضؤا ))
لأنه كريم، تغافل عنه فاللئيم يتبّع العوَر، يحمّر الوجوه، يحرج، يفضح فضَّاح، طعَّان، ليس المؤمن بطعّان ولا لعان ولا فاحشٍ ولا بذيء.
الكريم يتغافل واللئيم يتبع ويتحرى، والكريم ؛ إذا استغفره عباده غَفَرَ لهم ولا يذكّرهم بأنواع معاصيهم وقبائحهم وفضائحهم.
مرةً وقفت بمنطقة مشرفة على دمشق، بيوت كثيرة، متقاربة، متراصة، وبعضها يضرب في علاء تعد الشام خمسة ملايين نسمة، تلوت قوله تعالى:
﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)﴾
(سورة الإسراء)
هذه البيوت لا يعلم ما فيها من طاعات أو من معاصٍ إلا الله ومع ذلك يرزقهم ويعافيهم:
(( عبدي لي عليك فريضة ولك علي رزق، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ))
والكريم إذا أتاه عباده بالطاعات اليسيرة قابلهم بالثواب الجزيل.
إنسان يطعم لقمة، هذه اللقمة تصبح يوم القيامة كجبل أحد، لا أعتقد في الدنيا أن أحدٍ يقدم ليرة ويأخذ بدلاً منها خمسة آلاف مليون ليرة، بالآخرة تأخذ أكثر، أعطيت شيئاً يسيراً، قمت ببعض الطاعات أنفقت بعض مالك، ضبطت شهواتك، التزمت طريق الحق، فأعطاك الجنة وما فيها قال تعالى:
﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)﴾
(سورة آل عمران)
الله الكريم جعل هذا العبد الحقير، هذا العبد الضعيف، هذا العبد الذليل يرتفع، أجل، رفعه فقال:
﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)﴾
(سورة البقرة)
فهل لنا عهد ؟ كأننا ند إلى ند، ولكن هذا من كرم الله عز وجل إذا خاطبنا، وحينما خاطبنا علّلَ أوامره، وتعليل الأوامر إكرامٌ لنا قال تعالى:
﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(45)﴾
(سورة العنكبوت)
الإنسان القوي يعطي أمراً لإنسان ضعيف دون تعليل افعل كذا فقط، ولكن الله عز وجل حينما أمرنا ذكر لنا التعليل كرماً منه وتطميناً لنا، قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)﴾
(سورة البقرة)
﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)﴾
(سورة التوبة)
فلذلك جعلنا أهلاً لمعاهدته فقال:
﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وإيَّايَ فَارْهَبُونِي ﴾
الله كريم، والكريم جعلنا أهلاً لمحبته، قال تعالى:
﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾
(سورة المائدة من الآية 54)
﴿إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً (96)﴾
(سورة مريم)
الله الكريم أعطانا الدنيا كلها، والدليل قوله تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)﴾
(سورة البقرة)
أما الهواء، فهل الهواء في قائمة النعم عندكم ؟ أجل، نعمة بلا ثمن فأنت تستنشق الهواء في أي مكان، وكذلك الماء، هذا الذي تدفعه ثمن الطعام، هذا شيء رمزي، من منكم يُصدّق أنه يدفع ثمن التفاح، هذا ثمن خدمة التفاح، فالتفاح ليس له ثمن، فهذا الفلاح الذي اعتنى بهذا البستان وسقاه وسمّده وقطف الفواكه وجاء بها إلى السوق، فأجرته ثمن كيلو التفاح، أما التفاح فلا يُقدّر بثمن إذ هو من الله عز وجل.
والآخرة أيضاً ملَّكها لعباده المؤمنين وسخّرَ الله سبحانه وتعالى ما في السماوات والأرض جميعاً منه، تسخير تكريم وتسخير تعريف.
الكريم هو الذي يعطي من غير مِنّة، من الصعب أن ترى إنساناً يعطيك بلا مِنّة، بل يقول لك " لحمك من خيري، أنا فضلت عليك، أنا أنقذتك من العدم، أنت كنت لا شيء ". لكن العطاء من الله سبحانه وتعالى من غير مِنّة.
ولا يحوجك إلى وسيلة، أحياناً لا تعطي الشخص حتى تستنفذ طاقاته: قدم طلب أولاً، هات هويتك، اذهب واحضر بعد أسبوع، تعال بعد يومين، سنجري تحقيق، يكره العطاء لشدة التحقيقات وكثرة التأجيلات والتأخيرات والتعقيدات والوثائق، أما الكريم لا يحوجك إلى وسيلة. والكريم لا يُقنط العصاة من توبة، قال تعالى:
﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)﴾
(سورة الزمر)
الكريم ؛ إذا أعطى أجزل، وإذا عصي أجمل.. حليم.
الكريم ؛ هو الذي لا تتخطاه الآمال.. أحياناً يأتيك إنسان ويعرض عليك حاجته، ويتذلل، ويبذل ماء وجهه، فترده بعدها، فيمحوك من قائمته، ويلغيك من مخيلته، لأنك خيّبت أمله، لكنك لا تجد إنساناً يسأل الله عز وجل ويخيبه فهذا مستحيل، لا تتخطاه الآمال.. إذا أولى فضلاً أجزله ثم ستره، يعني الإنسان الكريم إذا أعارك بذلته، فقد يقول لك أمام الناس: ارتديها لا شيء عليك، يفضحك أمام الناس. كثيراً ما تلاحظ مثل ذلك على شخص أعطى حاجة إلى إنسان آخر، أو أعاره إياها، فيمن بها أو يعرّض بآخذها.
والكريم دائم المعروف كثير النوال، ذو الطول والإنعام يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء، هذه كلها أوصاف قرآنية.
وإن الله حيّيٌ كريم، ومن حيائه وكرمه أنه يستحيي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما خائبتين.
" يا ابن آدم كبرت سنك وانحنى ظهرك، وضَعُفَ بصرك، وشاب شعرك فاستحِ مني فأنا أستحي منك.
وفي الحديث القدسي:
(( ما أنصفني عبدي، أستحي أن أعذبه ولا يستحي أن يعصيني))
(( وما قال عبد قط يا رب ثلاثاً إلا قال الله لبيك يا عبدي ))
بل إنَّ الكريم يغضب على من لا يسأله، قال عليه الصلاة والسلام:
(( إن الله عز اسمه كريم يحب مكارم الأخلاق ويبغض سفاسفها ))
سفاسف الأمور يعني أن يرى شخصاً سخيفاً، والموضوع المعالج سخيف جداً وهو بخيل زيادة، وأناني، ومحور حياته مصالحه، هذه سفاسف الأمور، أما إذا اطلّع على قلبك فرآه قلباً يهتم لعامة المسلمين وقضاء حاجاتهم فهذا من مكارم الأخلاق، فالله عز وجل لا ينظر إلى صوركم، فهذا طويل وذاك قصير، هذا عيونه كبيرة، وذاك عيونه صغيرة، هذا ناتئ الوجنتين، والآخر غائر العينين، هذا حواجبه متصلة وغيره منفصلة، خده أسيل.
((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ اِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ اِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ))
(صحيح مسلم)
والقلب محل نظر الرب.
قالوا: الكريم الذي لا يبالي كم أعطى ولا لمن أعطى، بل إن الكريم من إذا رُفعت حاجة إلى غيره لا يرضى.
أحياناً يقصد شخصاً إنساناً كريماً فيقول له: إياك أن تسأل أحداً غيري، حاجتك عند يمضمونة، فهذه أعلى درجة في الكرم، أنا أغضب لو سألت غيري.
تصوّر إنساناً محتاجاً والأمر كله بيد الله عز وجل، يقف أمام إنسان ضعيف حقير، لئيم يتذلل له، يبذل ماء وجهه أمامه، ثم يرده، ولكن الله سبحانه وتعالى أكرم الأكرمين، فلذلك الكريم من إذا رُفعت حاجة إلى غيره لا يرضى.
الكريم من إذا جُفي عاتب وما استقصى، وعدك أحدهم أن يزورك، لم يأتِ، عاتبته، قال لك ابنتي كانت مريضة، ثم اتصلت بجاره فقال: صحيح كانت ابنته مريضة، هذا اسمه استقصاء، هو استحيا منك فقدّم عذراً، من الكرم ألا تستقصي الأمر، بل الاستقصاء في هذه المواقف مثلبة.
إنسان اعتذر منك فقل في نفسك: جاءني أخي متنصلاً من ذنبه، فاقبل منه محقاً كان أو مبطلاً، هناك أشخاص، عندهم نفسٌ طويل، فكلما اعتذر إنسان إليهم يتبعون الأمر ويلاحقونه ؛ يقولون: ظَهَرَ كذاباً، ابنته غير مريضة، هو نسي الموعد واستحيا منك فاعتذر بمرض ابنته، فالكريم ؛ من إذا جُفي عاتب ولم يستقصِ.
حديث أسرَّهُ النبي إلى بعض أزواجه، فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض، لن تكون كريماً إلا إذا غضضت البصر عن تسعة أشياء وحاسبت على العاشر، كثرة العتاب تورث البغضاء، فالكريم عرف بعضه وأعرض عن بعض.
الكريم ؛ لا يُضيّع من لاذ به، ولا يضيع من التجأ إليه، هذه تعاريف دقيقة جداً، الملخص يجب أن تعتمد على الله وحده، وأن تلتجئ إليه، وأن تُعلّق عليه كل الآمال، وأن تقطع آمالك من البشر جميعاً، إذا كنت ترغب في أن تسعد في الدنيا والآخرة، فحيثما تعلقت بالبشر، واعتمدت عليهم وعقدت عليهم الآمال خيبوك.
رجل له صديق تولى منصباً رفيعاً، عرضت له حاجة، فذهب إليه، فأقسم بالله أنه وقف أمام مكتبه، ولم يقل له تفضل استرح، وعندما سأله عما يريد قال: كذا، قال: " ما في موافقة "، صديق، فهل أصابه مرض قصر البصر، فلم يعد يرى ؟ لكن الكريم يُغنيك عن الوسائل والشفعاء، واعلم أن المعروف بتمامه، أن تكرم إنساناً عفواً وسماحة، دون أن تمُنَّ عليه، دون أن تضعه أمام عقبات تعجيزية. الكريم من إذا هجرته وصلك.
أحياناً تجد إنساناً بائساً مهتزاً فقيراً مثلاً، أموره مضطربة، متداخلة، فتنفر نفسه من الدين، تراه يترك الصلاة، لكن الله عز وجل لا يدعه، فقد يُكرمه رغبة في جبر خاطره، فيحل مشكلته، ويريه مناماً طيّباً، فالعبد هجر لكن الله عز وجل وصل.
الكريم من إذا هجرته وصلك، إذا مرضت عادك، إذا وافيت من سفر زارك، إذا افتقرت أحسن إليك، فمن أدقّ معاني الكرم، أنَّ الكريم من بني البشر إذا رفعت إليه حاجة عاتب نفسه، لِمَ لمْ يبادرْ إلى قضائها قبل أن تسأله هذه الحاجة ؟ هذا واللهِ معنى دقيق.
أحياناً يكون لك أخ وافتقر، وكانت حالتك المادية جيدة، وهذا الأخ له كرامته ومكانته وعِزتَهُ ولكنه افتقر، يجوز أن ينسحق سحقاً ولا يسألك، لكن ربما سألك، فاعلم علم اليقين عندئذٍ أنك لما أحوجته إلى أن يسألك فقد أسأت إليه دققوا في هذا الكلام، إذا كنت كريماً فعلاً فعليك أن تتقصى شؤون إخوانك وأقربائك، وأخواتك ولا تُحوجهم إلى أن يسألوك، فالكريم فمن إذا رفعت إليه حاجةٌ عاتب نفسه لِمَ لمْ يبادرْ إلى قضائها قبل أن يسأل.
وبعد، فما حظ العبد من هذا الاسم ؟ قال العلماء: قد يتصف العبد بأنه كريم، هذا العبد الكريم إن ألحّ عليه أحد بطلب، أو زُرهُ وبقي في زيارته ثلاث ساعات مثلاً، فإنه يتأفف ويتضايق، ويسكت، ثم لا يلبث أن يقول للزائر: عندي موعد، فإذا ألح عليه بالطلب مرات عديدة يضجر، وقد ينهره، وقد يقسو عليه، إذ لا يمكن أن يكون الإنسان كريماً كرماً مطلقاً، فكرم الإنسان كرم نسبي، ألا هكذا فلتعلم، لكنَّ الكريم كرماً مطلقاً هو الله وحده، إن الله يحب المُلحين في الدعاء أحضر لي إنساناً واحداً يحب من يُلِّح عليه.. بل سيقول: يا أخي أضجرتني، سأخرج من جلدي منك، يا أخي اذهب عني.
هذا الإنسان الكريم، أما الله عز وجل " إن الله يحب الملحين في الدعاء " من لا يدعني أغضب عليه، الإنسان كي يكون كريماً يجب أن يتجاوز عن ذنوب المسيئين، ويجب أن يوصل النفع إلى جميع الخلق، أحياناً ترى بلداً متقدماً والمواطن في هذا البلد يحيى أرقى حياة، له حقوق كثيرة جداً، الطعام، الشراب، المسكن، أنواع الأطعمة، الحريات، لكن هذا البلد المتقدم الذي يوفر لمواطنيه حياة رفيعة المستوى، ينهش بلحوم بقية الشعوب، إذاً هؤلاء ليسوا كرماء هؤلاء أنانيون، إذ بنوا أمجادهم وحضارتهم ورفاه شعبهم وغِنى أبنائهم وتوافر الحاجات عندهم على نهب ثروات الآخرين، وعلى قهر الآخرين، وعلى سرقة ثرواتهم، هؤلاء ليسوا كرماء، لن تكون كريماً إلا إذا عمَّ نفعك كل الناس وكل الخلق حتى الحيوانات.
عندهم في المداجن ؛ إذا كان إنتاج الصيصان أكثر مما هم بحاجة إليه يضعونه في حراق ويتلفونه، هكذا في أوروبا، نعم، هكذا التعليمات.
هل يفعل هذا مسلم ؟ صوص يُسبّح الله عز وجل تحرقه، ماذا عمل ؟ اجعله ينمو واذبحه وكله، واستفد منه ولك أجر بهذا العمل، أما أن تحرقه بنار الدنيا فهذا اللؤم كله.
لن تكون كريماً إلا إذا عمَّ خيرُكَ الناس جميعاً وأنا أقول لكم والله إذا أسأت إلى مجوسي، أو إلى عابد صنم أو إلى مُلحد، والله هذه الإساءة إثمها أضعاف مضاعفة عن إساءتك لمسلم، لأن هذا عرف الدين من خلال إساءتك أنه عدوان، فأبعدته عن الدين بهذه الإساءة.
الكريم من بني البشر صفوح عن الذنوب ستّار للعيوب تارك للانتقام مسبغ للإنعام.
سمعت حادثة أن إنساناً كان على وشك أن يلقي كيس القمامة في الحاوية فرأى كيساً فيه حركة، دُهش، أخذ الكيس المتحرك ففتحه فإذا فيه طفل قد ولد حديثاً، يبدو أنه ألقي منذ نصف ساعة، أخذه إلى البيت، ثم أسرع به إلى المستشفى، ووضعه في الحاضنة، واعتنى به، إلى أن أصبح هذا الجنين طفلاً، أدخله المدرسة، حتى أنهى الابتدائية، ثم الإعدادي ثم الثانوي، سمعت أنه اعتنى به عناية كبيرة، والخبر انتهى إلى هكذا، فلو أن هذا الإنسان تابع العناية، حتى خرجه طبيباً مثلاً، وطلب اختصاصاً فأرسله إلى بلد متقدم وجاءه ببورد، ثم اشترى له عيادة، زوّجَهُ ابنته، أعطاه رأس مال، هذا الإنسان الذي لقي كل هذا الإنعام، ما موقفك ممن أنعم عليه؟.
هذه الحادثة ذكرتني بموقف الصحابي الجليل عبد الله بن رواحه، لما رأى صاحبيه قد استشهدا وهو على وشك موت سريع جداً قال:
يانفس إلا تقتلي تموتـــي هــذا حمام الموت قد صليت
إن تفعلي فعلهما فقد رضيت وإن توليت فقد شقيــت
***
أروي الحادثة إن صحت كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:
(( أخذ الراية أخوكم جعفر فقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم أخذ الراية أخوكم زيد فقاتل بها حتى قتل وإني لأرى مقامه في الجنة، ثم سكت النبي، فقالوا ما فعل عبد الله قال: ثم أخذها عبد الله وقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه، يعني هبطت مكانته درجة في الجنة لأنه تردد.. ))
وعودة إلى هذا الجنين الذي كان في الحاوية، إذ بعد ما أصبح طبيباً معه بورد كما يتراءى لنا وبينما وهو راكب سيارة، شاهد عمه الذي التقطه من الحاوية، قال له: يا بني أوصلني إلى البيت، تردد خمس ثوان، ثم قال له إلى البيت. قال: نعم، تفضل. هذا التردد إجرام بحق هذا العم. كان في الحاوية وكان موته محققاً، صنع منه طبيباً يحمل شهادة بورد، فهذا إنسان فكيف خالق الأكوان ؟ من أنت ؟.. عندك في البيت كتاب قديم مطبوع سنة ألف وتسعمائة وثلاثين مثلاً وأنت ولدت في السنة التاسعة والثلاثين أو في الأربعين أو في الستين، فعندما صفوا الحروف ليطبعوه أين كنت أنت ؟.. عندما ألفه المؤلف أين كنت ؟ وقت باعوه أين كنت ؟ وقت أن نشروه أين كنت ؟
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1)﴾
(سورة الإنسان)
فلذلك حق الله كبير كبير، قال الله سبحانه وتعالى في حق المنافقين:
﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)﴾
(سورة التوبة)
فحينما اقترب أجل النبي أَسرَّ إلى سيدنا حذيفة سراً إذ ذكر له سبعة عشر اسماً وقال له هؤلاء إذا ماتوا لا تصلوا عليهم، لأنَّ الله نهانا عن أن نصلي عليهم، هكذا الآية:
﴿ وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ اِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾
فسيدنا حذيفة أمين سر رسول الله، ثم جاء سيدنا الصديق خليفة من بعده، ثم مات سيدنا الصديق، وجاء سيدنا عمر من بعده، سيدنا عمر عملاق الإسلام، الخليفة الراشد، ثاني الخلفاء الراشدين، جاء إلى حذيفة وقال له: يا حذيفة أنشدك الله هل ذكر اسمي بينهم.. والله ما قالها تمثيلاً، لا والله، والله قالها صادقاً، قال له: أنشدك الله هل ذكر اسمي بينهم وذلك لِعظَمِ حق الله عليه، فقد خاف الله أن يكون قد زلت قدمه. ثم قال: لعلي مقصر، لعلي منافق، لو عثرت بغلة في العراق لحاسبني الله عنها، جاءه ليلاً من أذربيجان رسول، كره أن يطرق بابه ليلاً، جاء للمسجد فرأى رجلاً يصلي ويبكي، ويقول: يا رب هل قبلت توبتي حتى أهنئ نفسي أم رددتها حتى أعزيها قال له: من أنت قال أنا عمر، قال: ألا تنام الليل، قال له يا أخي: إن نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي، في الصباح خيره أتحب أن تأكل مع فقراء المسلمين.. الفقراء يأكلون اللحم، أم تحب أن تأكل عندي ؟ لا بل آكل عندك يا سيدي، أنت الخليفة، ذهب به إلى بيته فما وجد عنده إلا الخبز والملح فقط، ثم قال له: ما الذي جاء بك إلينا ؟ قال جئتك بهذه الهدية من أذربيجان، علبة فيها حلوى، لكنها من الدرجة الأولى، قال: أو يأكل عندكم هذا الطعام عامة المسلمين، قال: لا. هذا طعام الخاصة، الطبقة الراقية، الغنية، فأرسل كتاباً إلى عامله على أذربيجان عنفه فيه وقال له: كل مما يأكل عامة المسلمين وقال له: أعط هذه الهدية لفقراء المسلمين في المدينة، وحرام على بطن عمر أن يذوق طعاماً لا يطعمه فقراء المسلمين.
ورأى عمر إبلاً سمينة في الطريق، فقال: لمن هذه الإبل، قالوا: هي لابنك عبد الله، قال: ائتوني به، قال له بقسوة لمن هذه؟ قال: هذه إبلي اشتريتها بمالي وبعثت بها إلى المرعى لتسمن. فهل أخطأت أو أسأت ؟ فقد اشتريتها بمالي، وأُسمِّنُها لأبيعها وأرتزق بها، قال له: ويقول الناس ارعوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، اسقوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المؤمنين.
ولأنك أنت ابني سمنت هذه الإبل، ثم قال له: بِعّ هذه الإبل وخذ رأس مالك ورد الباقي لبيت مال المسلمين.
ومرةً بينما هو جالس مع أصحابه، قال أحدهم: والله ما رأينا من هو خيرٌ منك بعد رسول الله، والله كلام لطيف كان عليه أن يقول: بارك الله فيك لكنه أحدَّ إليهم النظر، حتى كاد أن يسحقهم بنظراته، إلى أن قال أحدهم: لا والله ؛ لقد رأينا من هو خير منك. قال: من هو ؟ قال: أبو بكر، فقال رضي الله عنه: كذبتم جميعاً وصدق.. عدَّ سكوتهم كذباً، قال: والله كنت أضل من بعيري وكان أبو بكر أطيب من ريح المسك.
هذا الذي سأل أحد عماله، قال: ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارق أو ناهب، قال: أقطع يده، قال له: إذاً، من جاءني من رعيتك جائع أو عاطل فسأقطع يدك، إن الله قد استخلفنا على خلقه لِنَسِدَّ جوعتهم ونَستُرَ عورتهم ونوفر لهم حِرفَتَهُم، إن وفيناهم ذلك تقاضيناهم شُكرها، إن هذه الأيدي خُلقت لتعمل فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فاشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية.
هذا الخليفة الذي قال لسيدنا حذيفة: أنشدك الله هل ذكر اسمي بين أسماء المنافقين ؟ قال: لا والله أنت أكرمنا وأنت أرحمنا، وأنت كذا.. خجل سيدنا حذيفة، فهذا الكرم.
هذا الاسم الإلهي العظيم، أمرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نتخلّق بأخلاق الله، هذا الكرم، أن تصل من قطعك، وأن تعفو عمن ظلمك، وأن تعطي من حرمك، وأن يكون صمتك فكراً ونطقك ذكراً ونظرك عبرةً.
وبعد، فإني أسوق إليكم واقعتين بل أكثر من ذلك: إن سيدنا موسى حينما ناجى ربه، قال يا رب: إنه لتعرض إلي الحاجة أحياناً فأستحي أن أسألك، أفأسأل غيرك ؟ فأوحى الله إليه: أن يا موسى لا تسأل غيري، وسلني حتى ملح عجينك وعلف شاتك.
ربنا عز وجل يحب الملحين، لِمَ لا تسألوه في السجود في صلاة السحر ؟ لم لا تسألوه عن حاجاتكم كلها ؟
حُكِيَ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه جاءه إنسان ليلة يسأله حاجة، فقال: يا غلام ارفع السراج، ولما رفع السراج: قال سلني حاجتك، لماذا فعل هذا ؟ قال: لئلا أرى في وجهه ذُلَّ السؤال، حتى لا يُحرج، فلا يخجل إن عرفنا من هو، هذا من كرم سيدنا علي.
وكذلك أحد العلماء، كان لا يناول الفقير شيئاً بيده، بل يضعه على الطاولة ثم يقول له: خذه. لئلا تكون يده عُليا ويد الفقير سفلى.
يُحكى عن أبان بن عياش " أبان أحد الصحابة أما عياش ليس صحابياً "، يحكى عن أبان بن عياش، أنه قال خرجت يوماً من عند أنس ابن مالك في البصرة، فرأيت جنازةً يحملها أربعة من الزنج، ولم يكن معهم رجل آخر، قلت سبحان الله، سوق البصرة وجنازة رجل مسلم لا يشيعها أحد فلأكونن خامسهم، " إذا رأى رجل جنازة ومشي فيها فهذا حسن وله أجر ولو لم يعرف صاحبها المحمول وليتبعها حتى القبر، وإذا فتحوا النعش ورأى ماذا فُعل بهذا الميت وكيف وضع في القبر، وكيف أهيل التراب عليه، لأن في معالجة جسد خاوٍ لعبرة "، فتتبع الجنازة، ثم قال: فمضيت معهم فلما وضعوها بالمصلى، قالوا لي: تقدم. قلت: أنتم أولى، قالوا كلنا سواء لا نعرفه، حتى دفنوه، وصليت عليه، وقلت لهم ما القصة، قالوا اسأل هذه المرأة، فهناك امرأة واقفة بعيداً فلما سألتها، قالت: هذا ابني كان مذنباً، وقال لي يا أماه إذا مت فلا تُخبري بوفاتي جيراني لئلا يشمتوا بي، واكتبي على خاتمي لا إله إلا الله محمد رسول الله واجعليه في كفني فلعلَّ الله تعالى يرحمني، وضعي رجلك على خدي وقولي هذا جزاء من عصى الله، فإذا دفنتني فارفعي يديك إلى الله تعالى وقولي إني راضية عنه.
أعطاها معلومات دقيقة، لم تخبر أحداً، ووضعت رجلها على خده بعد الموت قالت هذا جزاء من عصى الله، تقول هذه المرأة فما رفعت يدي إلى السماء حتى سمعت صوته بلسان فصيح يقول: انصرفي يا أماه فقد قدمت على رب كريم.. هذا سِرّ القصة.
فإذا كان الإنسان يخاف الله عز وجل ويستحي منه فهذه فضيلة، أما الأكمل للإنسان أن يكون بالرخاء تائباً منيباً مستقيماً وباب رحمة الله واسع.
أرجو الله سبحانه وتعالى أن يتغمدنا برحمته، وأن يلهمنا أن نكون كرماء لأنه كريم، والكريم بالمعنى الموجز ما كان خالياً من كل شائبة فكتاب كريم ومقام كريم ورب كريم وإنسان كريم ومؤمن كريم.
يعني الكذب والنميمة والغيبة وتتبع العورات هذه كلها تقدح بكرم الإنسان بل ليسمح لي القارئ الكريم أن أقول: أن هذه المثالب سلبت صاحبه أي فضل وكرم، وأبقت عليه اللؤم وخزي الأحدوثة.
والحمد لله رب العالمين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الأحد يوليو 23, 2017 8:53 am من طرف زهور الخير
» اسم الله العـــزيز
الأحد يوليو 23, 2017 8:32 am من طرف زهور الخير
» اسم الله تعالى المهيمن
الأحد يوليو 23, 2017 8:21 am من طرف زهور الخير
» دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لاهل بيته
الأحد يوليو 23, 2017 7:55 am من طرف زهور الخير
» سورة البلد بصوت الشيخ مصطفى اللاهوني مترجم بثلاثة لغات [ العربية و الانجليزية و الفرنسية ]
الخميس يوليو 20, 2017 5:40 pm من طرف زهور الخير
» سورة الفجر بصوت الشيخ مصطفى اللاهوني مترجم بثلاثة لغات [ العربية و الانجليزية و الفرنسية ]
الخميس يوليو 20, 2017 5:40 pm من طرف زهور الخير
» سورة الغاشية بصوت الشيخ مصطفى اللاهوني مترجم بثلاثة لغات [ العربية و الانجليزية و الفرنسية ]
الخميس يوليو 20, 2017 5:38 pm من طرف زهور الخير
» سورة الاعلى بصوت الشيخ مصطفى اللاهوني مترجم بثلاثة لغات [ العربية و الانجليزية و الفرنسية ]
الخميس يوليو 20, 2017 5:37 pm من طرف زهور الخير
» سورة الطارق بصوت الشيخ مصطفى اللاهوني مترجم بثلاثة لغات [ العربية و الانجليزية و الفرنسية ]
الخميس يوليو 20, 2017 5:36 pm من طرف زهور الخير